في السهول النجدية الواسعة، حيث تمتد الأرض بلا نهاية، يقف الراعي تحت سماء تتلوّن عند الغروب بألوان شاحبة. تتسلل عيناه نحو الأفق البعيد، كأنما يُحدّق في شيء لا يراه إلا هو. خلفه يسير القطيع، رؤوس مائلة، وأقدام تطبع خطوات متجانسة على التراب، تتبع خطواته وكأنها تجرّها قوى خفية لا تُرى. لا يحتاج الراعي إلى رفع صوته، ولا إلى التلويح بعصا، فالصمت وحده يكفي ليُبقيهم في مسارهم، وكل شيء يمضي بنظام دقيق، كأن الحقول تتنفس بإيقاع واحد معه.
الراعي لا يُفصح بشيء، لكنه يُسيطر؛ حضوره أشبه بظل يمتدّ بعيدًا، يمنحهم طمأنينة لا تستند إلى منطق واضح. وجوه الخراف تمضي في هدوء غريب، لا تلتفت إلى الجانبين ولا تسأل عن المصير. الحركة أشبه برقصة تنساب ببطء، لكنها دقيقة، كأنما الريح تعرف مسارها وتهمس لهم، فيخففون من وطأة الأسئلة غير المرئية التي قد تُربك هذا الانسياب.
حين يسير القطيع، يُبقي عينيه نحو الأمام، وكأن شيئاً ما ينتظرهم. كل خطوة تُفضي إلى الأخرى دون توقف، والإيقاع يظل مستمراً؛ لا يرتفع ولا ينخفض، بل يستمر في تدفقه المتماسك. وبينما تتابع الأجساد المتمايلة خطواتها، يظهر التوازن الهش الذي يربط كل شيء، كأن كسر هذا الإيقاع سيفضح ما كان مختبئًا طوال الطريق.
الراعي يمشي في صمت، يختصر المسافات بنظراته الثابتة. لا يحتاج إلى كلمات ليُبدي أنه يعلم، لكن تحت هذا الهدوء الذي يبدو مطمئنًا، تكمن دقة مرعبة في كل خطوة، في كل إشارة تُرسل عبر يديه. يداه تتحركان بخفة، لا تُغيّر شيئاً، بل تدعو الأشياء لتُغيّر مسارها. كأنما الرياح تتبع إشاراته، تُحرك الأعشاب بحذر، تفتح الطريق أمامهم دون ضجة.
عندما يُغير الراعي اتجاهه بحركة بالكاد تُدرك، يتحول المسار، والقطيع يتبعه دون تردد، كأنهم يعرفون أن ما يتبدل هو الصورة، لكن الإيقاع الذي يُحافظ على سيرهم يبقى ثابتًا. يتحركون بلا تساؤل، يحافظون على الانسياب؛ لأن في أعماقهم هناك إحساس بأن الاستمرار هو كل ما يهم، حتى لو كان الطريق يمضي نحو أفق مجهول، حتى لو كانت الظلال في الوديان تزداد كثافة وتأخذ الضوء معها شيئًا فشيئًا. لكن إلى متى يستطيعون أن يمضوا في هذا المسار دون أن تتغير الآفاق، ودون أن يستشعروا بأن ما يتبعونه قد يكون هو نفسه مسحورًا؟ هل هناك نهاية منتظرة في مكان بعيد، أم أن الرحلة بحد ذاتها هي الهدف، والمجهول الذي يلوح من بعيد ليس إلا انعكاسًا لشيء لا يمكنهم رؤيته؟
الراعي، ذلك الذي يبدو وكأنه يعرف تمامًا ماذا يفعل، هل يدرك حقًا أين يقودهم، أم أن دوره هو فقط أن يُبقيهم في حركة مستمرة ليمنحهم الطمأنينة التي تتفكك بمجرد أن تتوقف الخطوات؟ هل كل تلك الإشارات البسيطة التي يُرسلها هي حقيقة أم مجرد وهم يتشبث به الجميع؟ وهل الراعي نفسه يعرف القصة كاملة، أم أنه مثلهم تمامًا، يتبع إيقاعًا لم يُفصح عن نهايته؟ ومع كل خطوة جديدة، هل يمضي القطيع بوعي تام أم أن في عمق كل رأس منحنٍ تساؤل لا يجرؤ على الصعود للسطح؟