في عالمٍ تزدحم فيه الوجوه وتسير الحياة بسرعة لا تهدأ، هناك جانبٌ مظلم يختبئ خلف زحمة الأيام وضجيج الشوارع المكتظة جانب لا تراه الأعين بسهولة لكنه حقيقي وحاضر. إنه عالم الفقر ذلك السجن غير المرئي الذي يخنق الأرواح ويمنعها من التنفس بحرية. بينما تستمر عجلة الحياة في الدوران يبقى الكثيرون عالقين في زوايا النسيان يصارعون من أجل البقاء دون أن يُعيرهم أحد انتباهاً.
الفقر ليس مجرد نقص في المال بل هو دوامة تبتلع من يقع في شراكها تجرده من الأمل وتسرق منه القدرة على الحلم. إنه حالة مستمرة من الحرمان تجعل الإنسان أسيرًا لعجزه يُكافح كل يوم فقط ليحافظ على وجوده. الذي يجعل الأمر أكثر قسوة هو تلك الطبقية التي تكرّس الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون والتي تجعل من الفقراء أشباحاً تسير في الظل يراها الجميع لكن لا أحد يتوقف ليسأل عنهم.
ما أقسى أن تشعر بأنك غير مرئي أن يمر بك الآخرون في الشوارع دون أن ينظروا إليك أو أن يتجاهلوك كما لو أنك لست موجوداً. هذا هو حال الفقراء في مجتمعٍ يفضل أن يبقيهم في الظل بعيدًا عن الواجهة حتى لا يفسدوا الصورة المثالية لحياة تبدو أنها مزدهرة. عندما يتحدث الناس عن الفقر يتحدثون عنه كأنه مشكلة يجب حلها ولكنهم في الحقيقة لا يرون البشر خلف هذه الكلمة لا يرون النفوس التي تعاني و الأحلام التي تذبل.
كلما تجولت في شوارع المدينة الضيقة كان يتملكني إحساس ثقيل بالضيق. كنت أرى وجوهاً متعبة جالسة على الأرصفة تحمل سنوات من الكدح والانتظار دون طائل وأرى أطفالاً يلعبون في زوايا مظلمة يرتدون ابتسامات مرهقة ويطاردون أحلاماً بسيطة ربما لن تتحقق أبداً. في عيونهم تساؤلات صامتة: لماذا نحن هنا، ولماذا لا نرى نور الأمل كما يراه الآخرون؟
المجتمع الذي نعيش فيه اليوم يعامل الفقر كوصمة، كأن الفقراء اختاروا هذا الطريق بأنفسهم وكأنهم مذنبون يجب محوهم من المشهد. هذه النظرة السطحية تجعل الفقر يستمر جيلاً بعد جيل لأن المجتمع لا يريد أن يعترف بحقيقته. يريد فقط أن يستمر في الحديث عن “التنمية” و”الفرص” دون أن يلمس المشكلة الحقيقية: أن هناك فجوة عميقة، تتسع كل يوم، ولا أحد يبذل الجهد الحقيقي لسدها.
نرى في الإعلانات وفي الخطابات الرسمية وعوداً كثيرة وعوداً بتحسين حياة الفقراء بخلق فرص عمل بتوفير تعليم جيد للجميع. ولكن حين تنتهي الكلمات وتبدأ الأفعال نرى أن كل شيء يبقى على حاله. إنهم يريدون فقط أن يظل الفقراء بعيدين عن الأنظار بعيدين عن المناطق الراقية والشوارع الرئيسية حتى لا يعكروا صفو الحياة لأولئك الذين يعيشون في الأعلى.
كما كتب جورج أورويل في “الطريق إلى ويغان بيير: المأساة الحقيقية للفقر ليست في الافتقار إلى المال، بل في الافتقار إلى الاحترام والاعتراف؛ أن تظل غير مرئي للعالم حتى حين تصرخ. وهذا هو حال الكثيرين في مجتمعنا. يصرخون كل يوم ولكن صرخاتهم تضيع في ضجيج الحياة السريعة في نغمات السيارات والموسيقى العالية والإعلانات الصاخبة.
الفقر ليس عيبًا، ولكنه نتيجة لعيوب كثيرة في نظامنا الاجتماعي والاقتصادي. إنه نتيجة لسياسات لا تراعي احتياجات الجميع ولثقافة تعزز الطبقية وتديم الفجوة بين الفئات. وعندما يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في إحصائية وعندما يُنظر إليه كجزء من مشكلة بدلاً من كونه روحًا تحتاج إلى الرعاية والاهتمام فإن الفقر يتحول إلى قيدٍ لا يمكن كسره بسهولة.
لقد رأيت بنفسي كيف يعيش الناس في تلك الزوايا المظلمة من المدينة كيف يتقاسمون القليل الذي لديهم بكرمٍ لا يتوقعه أحد وكيف يبتسمون رغم كل الصعاب وكيف يحلمون رغم أن الحلم يبدو مستحيلاً. أولئك الناس لا يريدون صدقة أو شفقة بل يريدون فقط أن يُروا أن يُعاملوا بكرامة أن يُعطوا فرصة حقيقية للحياة.
الفقر لن يزول بمجرد إلقاء وعود فارغة ولن يُمحى بالحديث عن “الخطط التنموية” دون وجود نية حقيقية للتغيير. إنه يتطلب تغييراً في القيم في كيفية رؤيتنا لبعضنا البعض في استعدادنا لفتح أعيننا لرؤية ما يحدث في تلك الزوايا التي نتجنب النظر إليها. الفقر يحتاج إلى قلبٍ يسمع صرخات من هم في الأسفل ويستجيب ليس فقط بالعطف بل بالفعل الذي يُغير حياتهم.
عندما نقبل بحقيقة أن الفقراء هم جزء من هذا المجتمع، وليسوا خارجه، عندما ندرك أن العدالة ليست خياراً بل واجب، حينها فقط سنبدأ في كسر تلك الدائرة المفرغة التي تجعل من الفقر حقيقة دائمة. وحتى ذلك الحين، ستظل الصرخات مكتومة، والأرواح مكبلةً بسلاسل غير مرئية تنتظر اليوم الذي تتحرر فيه من الظل.